التعليم المهني في العراق بين التهميش المجتمعي وضعف التخطيط لتحقيق التنمية المستدامة
منظومة غير مؤهلة لسوق العمل

منظومة غير مؤهلة لسوق العمل
انفوبلس/..
يواجه التعليم المهني في العراق تحديات جوهرية تعرقل دوره في تلبية احتياجات سوق العمل والمساهمة في تحقيق التنمية المستدامة، بالرغم من أهمية هذا النوع من التعليم في بناء اقتصاد متوازن ومتطور، إلا أنه يعاني من ضعف في التخطيط الاستراتيجي، وغياب التنسيق بين المؤسسات التعليمية والقطاعات الإنتاجية، مما أدى إلى فجوة كبيرة بين مخرجات التعليم المهني ومتطلبات السوق الفعلية.
كما تساهم النظرة المجتمعية السلبية تجاه التعليم المهني، التي تعتبره خيارًا أدنى مقارنة بالتعليم الجامعي، في تقليل الإقبال عليه، ما ينعكس سلبًا على كفاءة القوى العاملة المحلية.
الأهمية الاقتصادية والاجتماعية
فمن الناحية الاقتصادية، يحتل التعليم المهني مكانة محورية في الاقتصادات المتقدمة، حيث تعتمد دول مثل اليابان وألمانيا والصين وماليزيا بشكل كبير على الأنظمة المهنية والتقنية لتلبية احتياجات الأسواق وتعزيز الإنتاجية.
فالتدريب المهني الفعّال يضمن تزويد العمال بالمهارات الحديثة التي تتناسب مع التطورات التقنية والصناعية، ما يعزز قدرة الدول على المنافسة عالميًا.
أما من الناحية الاجتماعية، فإن ضعف التعليم المهني لا يؤثر فقط على الاقتصاد، بل يمتد تأثيره إلى بنية المجتمع نفسه، حيث تزداد معدلات البطالة بين خريجي هذا النوع من التعليم، ويفتقر الشباب إلى فرص عمل تتيح لهم استثمار مهاراتهم بشكل منتج.
في المقابل، يواجه العراق تحديات كبيرة في هذا المجال، أبرزها غياب سياسات واضحة لربط التعليم المهني بالقطاعات الإنتاجية، وعدم توفر البنية التحتية المناسبة لتدريب وتأهيل الشباب وفقًا للمعايير الحديثة.
ومع التغيرات المستمرة في سوق العمل، أصبح من الضروري إعادة النظر في المناهج وأساليب التدريب، لتتوافق مع التطورات الصناعية والتكنولوجية المتسارعة.
وفي سياق تحقيق أهداف التنمية المستدامة، يشكل التعليم المهني في العراق نقطة ضعف رئيسية، حيث أدى التركيز على قطاع النفط كمصدر أساسي للاقتصاد إلى إهمال الاستثمار في رأس المال البشري.
ونتيجة لذلك، تراجعت مساهمة التعليم المهني في تطوير القطاعات الإنتاجية، مما أثر سلبًا على النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي. لذا، هناك حاجة ملحة لتبني سياسات تنموية جديدة ترتكز على تعزيز دور التعليم المهني كأداة رئيسية لتحقيق التنمية المستدامة، من خلال تحسين جودة التدريب، وتطوير الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وتعزيز الوعي المجتمعي بأهمية هذا القطاع في بناء مستقبل اقتصادي متين.
تحديات التعليم المهني في العراق
ورغم أن التعليم المهني يُعَدّ ركيزة أساسية في اقتصادات الدول المتقدمة، حيث يسهم في تزويد سوق العمل بكفاءات مؤهلة تلبي احتياجاته المتجددة، إلا أن هذا القطاع في العراق يواجه تحديات جوهرية تعيق تطوره.
وتشير الإحصائيات إلى أن نسبة الطلبة الملتحقين بالتعليم المهني لا تتجاوز 1% من إجمالي طلبة المدارس الحكومية، وهي نسبة ضئيلة للغاية مقارنة بحجم الطلب المتزايد على الأيدي العاملة الماهرة في مختلف القطاعات الإنتاجية.
ورغم الحاجة الملحّة لتعزيز التعليم المهني، لا يتجاوز عدد المدارس المهنية في العراق 316 مدرسة فقط، تستقبل سنويًا نحو 25 ألف طالب، وهو عدد غير كافٍ لتغطية احتياجات سوق العمل المتنامية.
كما توجد في البلاد أربع جامعات تقنية تتبع وزارة التعليم العالي، مما يطرح تساؤلات حول مدى قدرة هذه المؤسسات على سد الفجوة بين متطلبات السوق وإمكانات الخريجين.
هذا التفاوت بين عدد المؤسسات التعليمية المهنية وحجم الحاجة الفعلية للأيدي العاملة الماهرة يبرز الحاجة إلى إصلاحات جذرية تهدف إلى إعادة هيكلة التعليم المهني، وتعزيز جاذبيته للطلاب، وضمان مواءمته مع التطورات الاقتصادية والتكنولوجية المتسارعة.
تخصصات التعليم المهني
ينقسم التعليم المهني في العراق إلى خمسة مكونات رئيسية، يتصدرها التعليم الصناعي كأكبر وأوسع المجالات، حيث يشمل تخصصات مثل الميكانيك، والكهرباء، وصيانة الحاسبات، والتكنولوجيا الصناعية.
وينقسم التعليم المهني في العراق إلى خمسة مكونات رئيسية، يتصدرها التعليم الصناعي كأكبر وأوسع المجالات، حيث يشمل تخصصات مثل الميكانيك، والكهرباء، وصيانة الحاسبات، والتكنولوجيا الصناعية. وحتى عام 2017، بلغ عدد المدارس الصناعية في العراق 189 مدرسة، ما يجعله الفرع الأكثر انتشارًا في منظومة التعليم المهني.
يليه التعليم التجاري، الذي يركز على اختصاصات الإدارة، والمحاسبة، والسياحة، والفندقة، ويضم 102 مدرسة موزعة في مختلف المحافظات. أما قطاع الحاسوب وتقنية المعلومات، فرغم أهميته المتزايدة في ظل التحول الرقمي، إلا أنه لا يزال محدودًا، حيث يضم فقط 11 مدرسة متخصصة في مجالات تجميع وصيانة الحاسوب، وإدارة الشبكات، والنظم الإلكترونية.
أما التعليم الزراعي، وهو أحد القطاعات التي يمكن أن تسهم في دعم الاقتصاد العراقي، فلا يزال يعاني من ضعف الانتشار، إذ يقتصر على 10 مدارس فقط، رغم الدور الحيوي لهذا المجال في تعزيز الإنتاج الزراعي وتحقيق الأمن الغذائي. في المقابل، يبقى تعليم الفنون التطبيقية الأقل انتشارًا، إذ يضم 4 مدارس فقط تركز على مجالات مثل التدبير المنزلي، والديكور، وتربية الطفل.
يعكس هذا التفاوت في أعداد المدارس المهنية مدى ضعف الاهتمام ببعض القطاعات الحيوية، مما يؤثر على قدرة هذه المؤسسات على تلبية احتياجات سوق العمل، ويؤكد الحاجة إلى إعادة هيكلة التعليم المهني بما يضمن توازنه مع متطلبات التنمية المستدامة في العراق.
مشاكل الواقع التربوي
ويعاني الواقع التربوي من مشاكل كبيرة وعديدة، وأبرزها قلة الأبنية المدرسية، إذ ما زال العراق بحاجة إلى 8 آلاف مدرسة بحسب تصريح رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، فضلا عن نقص الكتب المدرسية، إذ غالبا ما ينتهي النصف الأول من العام دون استلام المدارس للكتب.
إلى ذلك، يبين أستاذ علم التربية في جامعة الإمام الصادق، فالح القريشي، خلال حديث صحفي تابعته INFOPLUS، أن "لحروب والنزوح والأزمات الاقتصادية، وضعف التخصيصات المالية أبرز العوامل التي أدت إلى تراجع التعليم المهني في العراق، فضلا عن غياب الاهتمام الحكومي بهذا القطاع".
ويتابع القريشي، أن "المناهج وأساليب التدريب لا تزال تقليدية وغير متطورة، كما أن الكوادر التدريسية في المدارس المهنية تعاني من ضعف الإعداد، في ظل غياب دورات تدريبية تواكب التطورات الحديثة كما هو الحال في دول مثل اليابان وماليزيا".
ويشير إلى أن "السياسات والفلسفة التعليمية في العراق لا تعطي التعليم المهني أهمية كافية، كما أن المجتمع العراقي ينظر إليه على أنه أقل شأنا من التعليم الأكاديمي، ما أدى إلى عزوف الطلبة عن الالتحاق به رغم أهميته في رفد سوق العمل بالكوادر المتخصصة".
العزوف والنظرة المجتمعية
النظرة المجتمعية السائدة تفضل التعليم الأكاديمي كمسار يضمن الوصول إلى الجامعة، بينما تبقى فرص خريجي التعليم المهني في مواصلة دراستهم محدودة للغاية
عزوف الطلبة عن الالتحاق بالتعليم المهني في العراق، واحدة من أبرز التحديات الكبيرة التي تواجهه، وهذا العزوف هو نتيجة قلة فرص التعيين المتاحة لخريجي الإعداديات والمعاهد المهنية، وهو ما أدى إلى انخفاض الإقبال على هذا النوع من التعليم.
ويعود ذلك إلى النظرة المجتمعية السائدة التي تفضل التعليم الأكاديمي كمسار يضمن الوصول إلى الجامعة، بينما تبقى فرص خريجي التعليم المهني في مواصلة دراستهم محدودة للغاية.
وبالإضافة إلى ذلك، لم تحظَ مناهج التعليم المهني بالتطوير المطلوب لمواكبة التطورات التقنية والتكنولوجية، ما جعلها غير قادرة على تلبية احتياجات سوق العمل الحديثة.
وفي ظل الحاجة المتزايدة إلى الكوادر الوسطى المتخصصة، فإن غياب تحديث المناهج وسياسات دعم التعليم المهني يفاقم من أزمة نقص المهارات في القطاعات الإنتاجية.