تمثال وسط الحلة.. بابل تستنسخ شاعرها موفق محمد مرتين.. إليك ما لا تعرفه عن شاعر المدينة التي فقدت حدائقها المعلقة
انفوبلس تقارير
بعد نقله من كورنيش شط الحلة لمنطقة الجمعية، شهدت محافظة بابل، قبل أيام، حفلاً شعبياً كبيراً لافتتاح تمثال الشاعر العراقي الكبير موفق محمد وسط احتفاء ثقافي واسع. فمَن هو محمد؟ وكيف شق شهرته وسلك أسلوب السخرية المُرّة. إليك تفاصيل كاملة عن الأديب والتربوي الذي خسر ابنه في المقابر الجماعية وخلّده بعشرات القصائد.
*تمثال في بابل
يوم الجمعة الماضي، شهدت محافظة بابل حفلاً شعبياً كبيراً لافتتاح تمثال الشاعر العراقي الكبير موفق محمد.
وشهد حفل الافتتاح حضوراً شعبياً وثقافياً كبيراً لاسيما حضور رئيس منظمة نخيل عراقي الثقافية الشاعر والإعلامي مجاهد أبو الهيل والمستشار الثقافي لرئيس الوزراء الشاعر عارف الساعدي والأمين العام لاتحاد الأدباء والكُتّاب في العراق الشاعر عمر السراي، حيث ابتدأ بعزف النشيد الوطني ثم تبعه عرض مونودراما للفنان حسين مالتوس ليفتتح الشاعر الساعدي بعد ذلك التمثال المحتفى به وسط تصفيق حار.
*احتفاء ثقافي واسع
وبهذا الصدد، ألقى الأمين العام لاتحاد الأدباء والكُتّاب العراقيين الشاعر عمر السراي كلمة أكد من خلالها، أن "الكلمة الأعلى اليوم هي شاعر هذا التمثال الذي لطالما حمل الحلة في قلبه ونحن نحتفل بموفق شاعراً وحكواتياً يفخر به الوطن كله، فضلاً عن كونه مركز الحلة، لِمَ لا وهو الصوت الوطني الأصيل". فيما أشار نائب الأمين العام لاتحاد الأدباء والكُتّاب في العراق الناقد ناجح المعموري إلى أن موفق محمد هو أحد الصباحات العراقية الكبيرة".
بدوره، أكد رئيس منظمة نخيل الشاعر والإعلامي مجاهد أبو الهيل، أن "الحلة مدينة ذكية لأنها لم تكتفِ بنسخة واحدة من موفق محمد لذلك استنسخت نسختها الثانية لشاعر طالما دوّن ذاكرتها وعزفت اقدامه نشيدها الأبدي".
من جانبه، طالب رئيس اتحاد أدباء وكتاب بابل الشاعر أنمار مردان، "بإيجاد مقر لاتحاد أدباء بابل، تبعه الشاعر علي الشلاه الذي قال في كلمته إنه من المحرج أن يكون أستاذك صديقك لاحقاً، كيف لا وهو الشاعر الكبير موفق محمد الذي علّمني كيف أقرأ السياب وكيف أقرأ المصطلحات الحلية العريقة".
*رد الجميل
وقبل ختام الحفل أكد المتبرع بتمثال المحتفى به الطبيب عادل الكرعاوي أن افتتاح هذا التمثال يمثل ثقافة وأدب الحلة ورد الجميل لشاعر اتسمَ وتحلى بمبادئه التعليمية والوطنية والإنسانية.
ليختتم الحفل بكلمة للشاعر العراقي الكبير موفق محمد قال فيها " أرفع قبعتي التي جاءت بها التجارب للعراق والحلة، ولهذا الجمع مشيداً بكل مَن حضر، ليقرأ بعدها قصيدة حملت عنوان "الحلة خبزة الله".
*مَن هو موفق محمد ؟
موفق بن محمد بن أحمد أبو خمرة، وُلِد بمحلة الطاق في مدينة الحلة سنة (1367هـ-1948م)، أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة والثانوية فيها، حصل على شهادة بكالوريوس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية من كلية الشريعة، بغداد، عمل في التعليم مدرساً في عدد من مدارس الحلة، وفي نشأته أحبّ المتنبي والجواهري والسياب، وتأثر بـ (بابلو نيرودا)، نشر شعره منذ سنة 1967م بعد نكسة حزيران وهو من جيل الستينيات وهو جيل التجديد والتمرد الشعري والفكري الذي يُطلق عليه (الموجة الصاخبة)، مارس كتابة الشعر ثم كتب الشعر الحديث ونشره في الصحف والمجلات العراقية مثل الكلمة والأقلام، والعربية مثل جريدة العرب. طُبعت له مجموعة شعرية في الدانمارك بعنوان (عبديئيل) (المرزوك، 2012م، ج3? ص341).
*أسلوبه الساخر وجرأته في الكتابة
انتهج الشاعر موفق محمد أسلوبا خاصا في كتابة الشعر، يقوم على الموائمة بين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة حتى أن الكثير من قصائده تسمو في آفاق القريض أحيانا ثم تخبو لتلامس النثر أحيانا أخرى.
ويأتي شعره معبرا عن كبرياء الكلمة في كلتا الحالتين وعن موقفه كشاعر وإنسان، لذا فقد جعل من الشعر وسيلة للتغيير ونقله من زواياه المحدودة في أعمدة الصحف والمجلات ليجعله (منبريا) إنْ صحّت الكلمة، فالشعر الحديث أقل قدرة على شدّ المستمع من الشعر العمودي ولكن موفق استطاع أن يجعل شعره قابلا للإصغاء مستقطبا الجمهور بمختلف مراتبه الثقافية حتى جعله يذهب للاستماع والاستمتاع وكأنه جمهور (الفرجة) التي يتفاعل بها الفنان بمن يحيط به.
ومفردات موفق تلامس ذائقة المستمع الى شعره حتى وإن هبطت عن المألوف، وإذا لم تُسعفه فصاحة اللغة ومتانتها يستعين باللغة الدارجة ويوظفها في القصيدة بشكل مُتقِن وكأن الفصحى غير قادرة على البوح لتنبري اللغة الحكائية وتقوم بدورها حتى أن الجمهور يبكي ويضحك في نفس اللحظة وما القصيدة التي قيلت في احتفالية أبي تمام إلا مثال على ذلك:
" أفنيتَ عمرك لم تقم من وجعة، إلا وطحت بأخرى
سرمهر وانـگس
وما تخلصت من بور لطمت به إلاّ تمنيته
فالجاي كان أنـگس .."
ويكثر الشاعر من استخدام الكلمات الدارجة، فتراها مبثوثة في صفحات قصائده دون أن تؤثر على جمالية اللغة، بل تمنحها اتساعا في الدلالة.
انفوبلس ستلتقط لكم بعض هذه المفردات على سبيل المثال :
(اويلي يابة - يا جار رمش لي - يمة آنا لفيت صرتك بالورد وذبيتة - وين نولي - العدة عراقي عتيـگ للبيع - انتو مطينة طرح - بلاد الجنابر - وضع ما تبقى من أيامه على تنكة نص ردن - لو نعرف انت بيا طولة...الخ ).
وهكذا تأتي اللغة الشعرية متشابكة ومؤثرة، وليس غريبا على الشاعر الذي يجيد كتابة الشعر الشعبي وله قصائد رائعة تتسم بالعمق والحزن ومنها (يا مطر زخنة محنة) كما ضمّن الكثير من الأغاني الشعبية الشائعة في قصائده، ومنها أغاني سعدي الحلي وعفيفة اسكندر وغيرها :
اريد الله على الدگـة يجازيهم
كلما عذبوا حالي ، ساكت ما أحاجيهم ..
*الأقوال المشهور والأمثال عند موفق محمد
أما الأقوال المشهورة والأمثال السائرة فقد استخدمها موفق محمد بشكل محوّر من أجل إثارة الانتباه وتسليط مزيد من الضوء ، ومنها : (أنت لا تنزل القبر الواحد مرتين - مسيرة المليون قبر لا تبدأ إلا بجثة - قبل أنْ نهزه رصاصا جنيا - أنا افكر إذن أنا دايخ - وقتالكم لا تأخذه سنة ولا نوم ..ألخ).
*سخرية محمد.. سلاح ضد الأنظمة
لقد كانت السخرية سلاح الشاعر موفق محمد ضد الأنظمة. لم يهادن ولم يصمت بل قال ما ينبغي قوله وكأنه لسان لمن آثر الصمت خوفا أو جهلاً. وإذا كان الفيلسوف الفرنسي ذو المنهج السريالي ( اندريه بريتون ) قد اخترع ما يسميه السخرية السوداء، تلك السخرية التي تقوم على استدعاء الأمور الأكثر رهبة، فإنه يصح أن نسمي سخرية الشاعر بالسوداء لأنها تطفو على بحيرة من الألم والحزن والمرارة ، وللنظر في مشهدية هذا النص يقول في أحد مقاطعه:
يقول القرضاوي
فمَن يقتل عراقيا خيرا يرى، ومن لا يقتل عراقيا شرا يرى!
ثم يقول في مشهد آخر :
وما ذبحناهم بل كانوا أنفسهم يذبحون
لقد كان المقطعان نموذجا لسخرية سوداء، فيها من الألم والاستغراب والدهشة، ما فيها من طرح المتناقضات بشكل أضحك الجمهور وأبكاه في آن واحد. كما أنه أدان التطرف الديني والمذهبي وسفّه شيوخ التطرف والتكفير، منتصرا للبراءة والضحايا، منتصرا للعراقيين الذين تذوقوا مرارة القتل والفتك والتجويع بأسماء مختلفة وهنا تكمن أهمية السخرية الهادفة التي انتهجها الشاعر موفق محمد في أغلب نصوصه.
*فقدانه لابنه عدي
ويستذكر موفق محمد، فقدان ولده المهندس عدي في المقابر الجماعية إذ يقول في رثائه:
ميّت آنه
ولا خط يجي عن موتك
سوده وحشتك يَولِيدي حرموك من تابوتك
مشجوله ذمته المرمرك
لا تبري ذمته مروتك
ما ناح طير على الشجر
إلّا اعله نغمة صوتك
حيل ادلهمت يا نبع ﮔلبي وﮔمرنه امدمّه
إبموس الخناجر تاكل بلحمه وتفطر النجمه
عميه وتدور رويحتي إبيابير أدوّر يمّه
وما ظِن بعد تطلع شمس وتزول هاي الغمّه
وفرﮔاك فتّ إمرارتي وضاﮔت عليّه الـﭽلمه
لا ﮔبر وتهدّل إله
وألهم ترابه وأسأله
الـﮔلب صاير كربله