أكذوبة الأسرى العراقيين في إيران: بين استغلال الذاكرة الجماعية والحقيقة الموثقة

انفوبلس/ تقرير
منذ انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية قبل أكثر من ثلاثة عقود، لم تنتهِ بعض الملفات التي أحاطت بها الشائعات والاستغلال السياسي والشعبي، وعلى رأسها ملف "الأسرى العراقيين في إيران".
وعلى الرغم من أن كافة البيانات الدولية والاتفاقات الرسمية تؤكد انتهاء هذا الملف بشكل كامل في أوائل الألفية الثالثة، إلا أن الخطاب الإعلامي والشعبي في العراق لا يزال يشهد بين الحين والآخر موجات جديدة من الادعاءات حول وجود أسرى عراقيين محتجزين داخل الأراضي الإيرانية.
في هذا التقرير، نسلط الضوء على حقيقة هذا الملف، وندقق في مدى صحة هذه الادعاءات، ونفكك الروايات المتداولة عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ونقابلها بالمصادر الرسمية والبيانات الدولية.
متى بدأ الملف؟
بدأ ملف الأسرى منذ اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية عام 1980، حيث تم تبادل الآلاف من الأسرى بين الجانبين خلال وبعد انتهاء الحرب، وشهد العام 2003 إعلانًا عراقيًا – إيرانيًا رسميًا عن إغلاق ملف الأسرى بشكل نهائي بعد سلسلة تبادلات برعاية اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
وكان الصليب الأحمر قد أعلن في عدة مناسبات أن "جميع الأسرى الموثقين قد تم تبادلهم أو معرفة مصيرهم"، وأنه لم تبقَ حالات أسر موثقة قيد الغموض. كما أكدت وزارة حقوق الإنسان العراقية في تقاريرها الدورية حتى عام 2011 عدم وجود أي دليل على استمرار احتجاز أي عراقي داخل السجون الإيرانية لأسباب تعود للحرب.
موجات الشائعات.. فرقان ماهر إنموذجا
لكن رغم وضوح الصورة الرسمية، تنطلق بين حين وآخر حملات على وسائل التواصل الاجتماعي تزعم وجود "أسرى سابقين"، حيث زعمت رئيسة منظمة نبأ الفرقان فرقان ماهر مؤخراً في لقاء متلفز تابعته شبكة "انفوبلٍس"، وجود كفاءات عراقية من السجناء والاسرى تستخدمهم إيران للعمل في "المفاعلات النووية" وعددهم 8000 شخص، دون تقديم أدلة على هذه الادعاءات.
وتعليقا على هذا الادعاء، دعا المحامي حبيب عبد، جهاز المخابرات وجهاز الأمن الوطني إلى استدعاء الأستاذة فرقان ماهر للتحقيق في ادعائها بوجود 8000 عراقي أسير يعملون في المفاعلات النووية الإيرانية، وتقديم الأدلة التي لديها، مؤكدا أنه في حال عجزت عن ذلك فيجب اتخاذ الإجراءات القانونية بحقها كونها تبث أكاذيب وإشاعات تهدف الى زعزعة استقرار المجتمع.
وجدد المحامي عبد، التأكيد على أن هذه الادعاءات كاذبة وتستهدف زعزعة استقرار المجتمع، مستندًا في ذلك إلى بيانات منظمة الصليب الأحمر الدولي والهلال الأحمر العراقي والإيراني التي تفيد بإغلاق ملف الأسرى بين البلدين.
كما من أشهر الأمثلة على الشائعات، انتشر عام 2024 فيديو لرجل مسن يدّعي أنه عاد بعد أكثر من 35 عامًا من الاعتقال في معسكرات إيرانية، وأنه تمكن من الهرب عبر الحدود. الفيديو أثار موجة كبيرة من التعاطف الشعبي، وأعقبه ظهور عدة "شهادات" أخرى متشابهة في السياق والادعاء.
إلا أن فحص هذه الشهادات أظهر تكرارًا في التفاصيل، وافتقارًا إلى الأدلة المادية أو القانونية، فضلًا عن غياب أي توثيق رسمي من السلطات العراقية أو الإيرانية أو الصليب الأحمر بشأن هذه الحالات.
وشهدت السنوات العشر الماضية عمليات بحث واستخراج وتبادل رفات ما بين الجانبين العراقي والإيراني، كانت معظم عمليات البحث هذه مدفوعة بمعلومات "مبعثرة" تعتمد على تاريخ المعارك وذاكرة الجنود والضباط ليتم البحث في مناطق معينة، وتمت من خلال هذه العمليات تبادل أكثر من 60 ألف رفات بين العراق وإيران، ما عدا ما تم العثور عليهم من عراقيين داخل الحدود العراقية، لكن ما يتم الاعتماد عليه من معلومات قد نفدت، ما أدى لتوقف عمليات البحث لحين العثور على معلومات جديدة للاستدلال على مناطق حدوث عمليات عسكرية أدت لموت جماعي للجنود للقيام بعمليات الحفر والبحث مجددًا.
وتتم عمليات التبادل من قبل اللجنة العراقية - الإيرانية المشتركة، التي اتفق البلدان على تشكيلها بهدف البحث عن رفات ضحايا الحرب، وبإشراف من قبل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وكذلك بموجب "مذكرتي التفاهم الموقعتين بين العراق وإيران في العام 2008.
المواقف الرسمية والدولية
إما عن المواقف الرسمية والدولية، فقد نفت اللجنة الدولية للصليب الأحمر مؤخراً، إطلاق سراح العشرات من الأسرى العراقيين في إيران، مؤكدة أن ملف الأسرى بين البلدين قد أُغلق رسميًا منذ أكثر من عقدين.
وذكرت اللجنة في بيان الأسبوع الماضي، أن "ما تناقلته بعض القنوات الإعلامية وصفحات التواصل الاجتماعي بشأن إطلاق سراح العشرات من الأسرى العراقيين من إيران، لا أساس له من الصحة"، مؤكدةً أن "ملف الأسرى بين البلدين قد أُغلق رسميًا منذ أكثر من عقدين".
وأضافت: "نؤكد أن هذه المعلومات غير صحيحة، ونأسف لتداولها منسوبةً إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر"، موضحة أن "كل إشاعة أو خبر كاذب حول ملف المفقودين ينعكس سلبًا على مشاعر العائلات التي ما زالت تبحث عن إجابات بشأن مصير أحبائها منذ سنوات طويلة، ويمنحها آمالًا كاذبة، فلنكن أكثر وعيًا ورفقًا بهذه العائلات".
وشددت اللجنة على أن "ملف الأسرى قد أُغلق رسميًا من قبل حكومتي العراق وإيران، ولم يعُد هناك أسرى حرب في كلا البلدين في الوقت الحالي، وذلك وفقًا لإعلانات رسمية من الجانبين، كما أن آخر عملية تبادل للأسرى بين العراق وإيران جرت في عام 2003 وتحت إشراف اللجنة الدولية للصليب الأحمر".
من جانبها، أعلنت الحكومة العراقية على لسان المتحدث باسم وزارة الدفاع ووزارة الخارجية أن "هذا الملف أُغلق نهائيًا بعد تبادل الأسرى، ولم تُسجل أي حالة مثبتة لوجود أسرى داخل إيران"، معتبرةً تكرار هذه المزاعم "عبثًا بمشاعر ذوي المفقودين".
كما نفت السلطات الإيرانية، وجود أي أسرى عراقيين منذ عام 2003، ووصفت بعض الادعاءات بأنها "محاولات سياسية لزرع الفتنة وإحياء روايات بعثية مشوهة".
إذ نفى العميد سيّد محمد باقر زاده، رئيس ملف الأسرى والمفقودين في هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، عام 2021 وجود أي أسير عراقي في إيران، مضيفاً أن "وزارة الدفاع العراقية ولجنة الصليب الأحمر سبق لهما أن أصدرتا نفياً لهذه المزاعم".
وأكد باقر زاده، توصُّل الطرفين العراقي والإيراني إلى نتيجة قطعية بعدم وجود أي أسير لأي من البلدين لدى الآخر، معتبراً أن "مثل هذه الشائعات تتكرر بشكل مستمر وفق سيناريو للبعثيين بهدف ضرب العلاقات الطيبة الإيرانية - العراقية وإثارة الخلاف بين الشعبين".
وبحسب خبراء في الشأن الأمني، فإن جزءا كبيرا من انتشار مثل هذه المزاعم يعود إلى استثمارها في إثارة المشاعر الوطنية وتحقيق مكاسب سياسية لبعض الجهات، خاصة في فترات الانتخابات أو عند تصاعد التوتر بين بغداد وطهران. كما يسهم غياب التوعية المجتمعية بآلية عمل المنظمات الدولية، وضعف ثقة الشارع العراقي بالمؤسسات الرسمية، في تصديق روايات غير موثقة يتم تداولها عبر قنوات غير موثوقة.
وبالمقابل، قامت منظمات مدنية حقوقية بإعداد حملات توعية، دعت فيها لعدم الانجرار وراء روايات غير موثقة، وطالبت ذوي المفقودين باللجوء إلى الطرق الرسمية والقنوات الدولية المختصة في حال وجود مؤشرات حقيقية.
قضايا تُستغل لاستثارة المشاعر الوطنية
في النهاية، فإن الادعاءات المتكررة بوجود أسرى عراقيين في إيران بعد كل هذه السنوات، رغم النفي الرسمي والدولي القاطع، تمثل واحدة من القضايا التي تُستغل لاستثارة المشاعر الوطنية وتجييش الرأي العام دون دليل.
كما أنه وبحسب مراقبين عراقيين وإيرانيين، من واجب الإعلام الوطني، والجهات الرسمية، والمجتمع المدني العمل سويًا على نشر الحقائق، وتوجيه ذوي المفقودين نحو المسارات القانونية والرسمية، واحترام الحقيقة والتاريخ بعيدًا عن المتاجرة بآلام الناس.
كما ولا بد من التأكيد على أن كل حالة تُثار ينبغي التحقق منها عبر الأدلة، وليس عبر مقاطع فيديو أو شهادات فردية تفتقر إلى السند الرسمي، لأن العدالة لا تُبنى على العاطفة، بل على التوثيق والحقائق.