حين يتحول القيظ إلى نعيم والملح إلى ذهب أبيض.. البصرة… حكاية مدينة تتحدى المناخ بحرارة شمسها الذهبية ومزارع نخيلها العنيدة

انفوبلس/..
في جنوبي العراق، حيث تمتزج حرارة الشمس برائحة البحر ونسائم النخيل، تبرز محافظة البصرة كواحة استثنائية في قلب التحديات المناخية، ومركز نابض للحياة الاقتصادية والزراعية. إنها ليست مجرد مدينة ساحلية تُطلّ على الخليج العربي، بل أسطورة عراقية تروي قصة شعب صامد استطاع تحويل صعوبة المناخ إلى فرصة ذهبية.
*أحواض الملح… ذهب أبيض من قلب البحر
على مشارف مدينة الفاو، وفي قلب الصحراء البصرية، يقف مصنع الملح شامخًا كصرح للصناعة المحلية، مستفيدًا من الشمس الساطعة ومياه البحر. في “مملحة الفاو”، يبرز إنتاج الملح كرمز لتحويل الطبيعة إلى مصدر رزق وخير. يقول حسام داود العكيلي، مدير الإنتاج في المصنع: “مملحتنا هي الأولى في العراق التي تعتمد على مياه البحر حصريًا لإنتاج الملح. هذا ليس مجرد منتج، بل قصة نجاح عراقية.”
في هذا المصنع العملاق، يتم ضخ مياه البحر إلى أحواض تمتد لسبعة كيلومترات طولًا وثلاثة كيلومترات عرضًا. ومع كل ارتفاع في درجات الحرارة، تزداد نسبة التبخر ويتشكل الملح، فتخرج بلوراته نقية براقة. “كلما ازدادت حرارة الشمس، زادت سرعتنا في إنتاج الملح”، يقول العكيلي، مؤكدًا أن الطبيعة هنا ليست خصمًا بل شريكًا. هذا الملح يستخدم في قطاعات حيوية من الصناعة النفطية إلى الصناعات الغذائية والمنظفات.
واوضح العكيلي أن العملية الإنتاجية تبدأ بضخ مياه البحر إلى أحواض التركيز، وهي أحواض تمتد على مساحة تُقدّر بسبعة كيلومترات طولًا وثلاثة كيلومترات عرضًا.
من جهته قال عبدالخالق صدام العبادي (مستثمر في المشروع)، إن المملحة تنتج نحو 350 ألف طن من الملح سنويًا، وأضاف “يُستخدم هذا الملح من قبل وزارة النفط في عمليات استخراج النفط، كما يُزوّد مصانع الملح الغذائي في العراق، ويُستخدم كذلك في إنتاج الأقراص الملحية لتنقية المياه، إضافة إلى دخوله كمادة أولية في صناعة المنظفات".
*ملح البحر… بيئة مستدامة
تُعرف عملية استخراج ملح البحر بأنها أقل ضررًا على البيئة مقارنة بالملح الصخري، إذ لا تتطلب عمليات حفر أو تفجير. ومع ذلك، يبقى الحرص البيئي ضروريًا لتجنب الإضرار بالنظم الساحلية. الخبراء يحذرون من خطر تلوث المياه الساحلية بسبب النفايات الناتجة عن عمليات التحلية واستخراج الملح، وهو ما يتطلب تنظيمًا صارمًا للحفاظ على تنوع الحياة البحرية.
*النخيل… رمز الصمود في وجه الشمس
وإذا كان ملح البحر في الفاو يمثل جوهرة الصناعة، فإن نخيل البصرة هو تاج الزراعة. في ظل حرارة تلامس الخمسين درجة مئوية، يقف النخيل شامخًا، متحديًا موجات القيظ التي تهدد محاصيل أخرى. عباس علي عبداللطيف، مزارع نخيل من البصرة، يبتسم وهو يقول: “ننتظر هذا الحر على أحرّ من الجمر… فهو يعجل بنضوج التمر ويزيد جودته.”
في حقول النخيل، لا تعني الحرارة العالية سوى موسم وفير ودبس دمعة شهي. “نأخذ التمر، نضعه في مكابس، ونعرضه لأشعة الشمس القوية، وكلما زادت الحرارة تحسن طعمه وجودته”، يضيف عبداللطيف بفخر. هذا الدبس الذي ينتجه مزارعو البصرة لا يُعتبر مجرد غذاء بل جزءًا من تراث المنطقة، يحمل نكهة الأرض والبحر والشمس.
*البصرة… صمود بيئي رغم التحديات
البصرة ليست مجرد مدينة تواجه شح المياه وارتفاع درجات الحرارة، بل هي رمز للتكيف والصمود. ومع الاعتراف بالتحديات الكبرى التي تواجهها المحافظة، من ارتفاع درجات الحرارة إلى الجفاف وتملح التربة، إلا أن إرادة أهلها تبقى صلبة، مدفوعة بحب الأرض وإصرار على البقاء.
يقول الباحث الأكاديمي مشتاق عيدان: “رغم أن بعض الصناعات تستفيد من الحرارة المرتفعة، فإن الآثار السلبية لتغير المناخ كبيرة. ومع ذلك، نجد في البصرة روحًا مقاومة تسعى لاستغلال الموارد المتاحة بأفضل طريقة ممكنة.”
*الحياة بين الماء والملح
في مدينة الفاو والبصرة، يروي البحر قصة الصراع والتكامل مع اليابسة. فمنه تُضخ المياه المالحة لتصبح ذهبًا أبيض (الملح)، وعلى شواطئه تقف أشجار النخيل لتغزل من أشعة الشمس خيوط الدبس اللذيذ. هذه الثنائية الفريدة تجعل من البصرة لوحة طبيعية وإنسانية نادرة، تجمع بين قسوة المناخ ونعومة الإنتاج.
*أفق اقتصادي واعد
بعيدًا عن الصورة النمطية لموجات النزوح والجفاف، تسعى البصرة لترسيخ موقعها كمحور اقتصادي حيوي في العراق. إنتاج الملح وتصديره، تحسين جودة التمور، وتنمية الصناعات المرتبطة بهما تمثل روافد قوية للاقتصاد المحلي. كما أن الاستثمارات المستمرة في قطاع الطاقة والبنية التحتية تعزز من قدرات المحافظة على مواجهة التحديات المناخية.
*البصرة… درة الجنوب العراقي
لا يمكن الحديث عن البصرة دون التوقف عند دورها التاريخي والثقافي والاقتصادي. إنها ليست فقط ميناء العراق إلى العالم، بل أيضًا ملتقى الحضارات، ومنبع الشعر والفن.
حرارة شمسها ليست عائقًا، بل مصدر إلهام لقصص الكفاح والنجاح.
*نداء للمستقبل
في ظل ارتفاع درجات الحرارة وموجات الجفاف، ومع تحذيرات الأمم المتحدة ووكالة الطاقة الدولية، تبدو البصرة في قلب العاصفة المناخية. ومع ذلك، فإن قصة أهلها، من عمال مملحة الفاو إلى مزارعي النخيل، تقدم درسًا عالميًا في القدرة على تحويل الأزمات إلى فرص.
هذه الأرض التي تنتج الذهب الأبيض (الملح) وعسل النخيل (الدبس)، تستحق دعمًا أكبر من الحكومة والمؤسسات الدولية لمساعدتها على بناء مستقبل مستدام، يحفظ بيئتها ويصون حياة سكانها.
في النهاية، تظل البصرة -رغم التحديات- منارة للأمل والإبداع في جنوب العراق، ورمزًا لإرادة لا تنكسر. وبينما تنظر العيون إلى الغد، تبقى البصرة شامخة، شامسة، كأشجار نخيلها، وكبلورات ملحها المتلألئة، تنادي العالم بأن العراق قادر على مواجهة التغير المناخي بالعزم والحكمة.