مأساة فنّيي الإشعاع الطبي في العراق.. "فريسة للسرطان والإجهاض"

انفوبلس/..
في أروقة المستشفيات العراقية، لا تزال صرخات العاملين في مجال التصوير الإشعاعي تَئِنُّ خافتةً خلف جدران الرصاص المهترئة، تلك الجدران التي لم تعد تحميهم من تسرب الإشعاعات القاتلة. بينما تعاني زهراء عشطان، التقنية الشابة التي لم تكمل عقدها الثالث، من شبح الإجهاض والسرطان الذي يخيم على حياتها منذ لحظة انتقالها إلى عالم الأشعة، تتفاقم المأساة مع تصويت مجلس النواب العراقي على قانون جديد في عام 2023 ألغى مخصصات الخطورة التي كانت بمثابة تعويض بسيط عن تعرضهم المستمر للإشعاع المؤيّن.
زهراء، التي تعمل منذ عام 2020 كمسؤولة تقنية للتصوير الإشعاعي في مستشفى اليرموك ببغداد، ثم انتقلت إلى وحدة أشعة بمركز صحي على أطراف المدينة، تصف الواقع المرير بقولها: “نعمل تحت سطوة الأشعة، وقد يكون الإجهاض أو السرطان من بين احتمالات مستقبلية لحياتي، وبدلاً من زيادة مخصصات الخطورة وضمانات التقاعد، قاموا بإلغائها”. ففي أيلول/سبتمبر 2022، حملت زهراء ورفاقها مطالبهم إلى وزارة الصحة أملاً في رفع نسبة مخصصات الخطورة إلى 50% بدلاً من 30%، لكن بدلاً من الإنصاف، جاء الرد بالحرمان، وإلغاء المخصصات بشكل كامل دون أي مبرر".
القانون رقم (99) لعام 1980، الذي كان يمنح العاملين في الإشعاع امتيازات مالية وتقاعدية، أصبح في مهب الريح. ومع إقرار “الهيئة الوطنية للرقابة النووية والإشعاعية والكيميائية والبيولوجية” في منتصف 2023، مُنحت الامتيازات فقط لموظفي هيئة الطاقة الذرية العراقية، بينما تُرك فنيو الإشعاع الطبي يواجهون المصير وحدهم.
وفي جلسة التصويت الحاسمة التي عُقدت في 16/10/2023، طرحت لجنة الصحة النيابية مقترحاً بإبقاء مخصصات الخطورة للعاملين في الإشعاع الطبي، لكن اللجنة المالية رفضته بحجة أن “المخصصات من صلاحية وزير الصحة”، متجاهلةً حجم المخاطر والتضحيات التي يقدمها هؤلاء الفنيون يومياً. حتى رئيس لجنة الصحة ماجد شنكالي أيّد القرار، مبرراً بأن التوسع في القانون “سيدخل الحكومة في متاهات كثيرة”.
ويقول رئيس لجنة الصحة والبيئة النيابية، ماجد شنكالي، بأن اللجنة المالية في مجلس النواب، رفضت التصويت على هذا البند وبررت ذلك بأن صلاحيات وزير الصحة تتيح له منح مخصصات مهنية بمقدار 30% للعاملين في وزارته، وفق قانون الرواتب، وأن المخصصات أمر إداريٌ يتعلق بالوزير.
ويضيف موضحاً موقف اللجنة المالية:”هي عدت القانون الجديد خاصاً بالعاملين في الطاقة النووية فقط وليس غيرهم”.
ويؤيد شنكالي ذلك الرأي “لأن المخصصات من صلاحية الوزير، ويجب أن يبقى ذلك وفقاً لتقديراته، ولا سيما أنه على دراية فنية أكبر بأوضاع العاملين ضمن طاقم إدارته، وبنحو خاص في الإشعاع، وذلك أفضل لأن التوسع في القانون سيدخل الحكومة في متاهات كثيرة”.
المفارقة المؤلمة أن مدير مركز الوقاية من الإشعاع، صباح الحسيني، أقرّ بأن سحب مخصصات الخطورة “سُحب سهواً”، معترفاً بأن ذلك “خطأ غير مقصود يجب تصحيحه”، لكن هذا التصحيح لم يحدث حتى الآن. وفي الخلفية، تدور خلافات سياسية حول مرجعية الهيئة الجديدة، إذ أشار النائب باسم الغرابي إلى وجود صراع بين جهات تسعى لإلحاق الهيئة بمجلس الوزراء وأخرى تريدها تحت مظلة وزارة البيئة، مع ما يرافق ذلك من حسابات سياسية على المناصب والامتيازات.
وفي تصريح صحفي أدلى به عضو لجنة الصحة والبيئة النيابية باسم الغرابي، في الثاني من تشرين الأول /أكتوبر2023، كشف عن وجود خلاف سياسي تعلق بالتصويت على مشروع قانون الهيئة الوطنية للرقابة النووية والاشعاعية والكيميائية والبيولوجية “كون الهيئة ستكون عائديتها ومرجعيتها إلى رئاسة مجلس الوزراء، وهناك من يريد أن تعود إلى وزارة البيئة”.
وأوضح الغرابي أن القانون يتضمن وجود جهة رقابية للطاقة الذرية “وهو يدمج ثلاث هيئات بهيأة واحدة ما يعني أن هناك مناصب سياسية ستلغى، لذلك هنالك اعتراض سياسي عليه”.
الصدمة الكبرى كانت عندما علم العاملون بالإشعاع أن القانون الجديد دمج ثلاث هيئات في كيان واحد، وألغى مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة البيئة، وحلّ هيئة السيطرة على المصادر المشعة والهيئة الوطنية للرقابة على الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية، مما جعل الفنيين الطبيين بلا مظلة قانونية تحميهم، إلا من صلاحيات وزير الصحة الإدارية التي لم تُترجم حتى اللحظة إلى أفعال.
في المستشفيات، لا يجد الفنيون سوى بدلات رصاصية متهالكة يتناوب على استخدامها عدة أشخاص، بعضهم يضطر لشراء ستر واقية على نفقته الخاصة تتجاوز قيمتها 100 دولار. أما أجهزة “البادج فيلم”، التي تقيس جرعة التعرض للأشعة، فلا يحصل عليها إلا المسجلون في مركز الوقاية من الإشعاع، تاركين آلاف العاملين الآخرين عرضة للخطر دون مراقبة أو حماية.
وتشير زهراء بأسى إلى أن إحدى زميلاتها في مستشفى اليرموك أُصيبت بثلاث حالات إجهاض بسبب تعرضها المستمر للأشعة، بينما يعاني العشرات من أمراض جلدية وسرطانية جراء العمل في ظروف تفتقر لأدنى معايير الأمان.
ويؤكد مصطفى الربيعي، تقني الأشعة الذي قضى 16 عاماً في المهنة، أن المستشفى نقل بعض العاملين إلى وظائف إدارية بعد إصابتهم بأمراض خطيرة، وسحبت امتيازاتهم المالية وكأنهم لم يقدموا شيئاً.
ويضيف مصطفى بمرارة: “إن استمرار الجميع بعدم تنفيذ مطالبنا سيعني الإلغاء المتعمد لحقوقنا بكل ما يحمله ذلك من أضرار علينا”. ويتابع واصفاً إجراءات مركز الوقاية من الإشعاع بأنها “ضعيفة ومخجلة”، مشيراً إلى حالات عمال أصيبوا بالعمى المؤقت جراء التعرض المرتفع للإشعاع، ولم يجدوا سوى فحص الغرفة والسترة الواهية التي يرتدونها كإجراء وقائي بدائي.
اليوم، وبعد أن وصلت الأمور إلى طريق مسدود، لجأ فنيو الإشعاع الطبي إلى الاحتجاجات وتقديم طلبات رسمية لإيقاف المصادقة على القانون، إضافة إلى تنظيم حملات عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، مطالبين بإعادة النظر في حقوقهم المسلوبة. وفي المقابل، تعهد رئيس لجنة الصحة النيابية بإعادة القانون إلى البرلمان لمراجعة بند مخصصات الخطورة، لكنه رفض بشكل قاطع إعادة امتيازات التقاعد التي كانت تضمن لهم الأمان بعد سنوات الخدمة الطويلة.
وسط كل هذا، تبقى زهراء وزملاؤها محاصرين بين أشعة قاتلة وقوانين ظالمة، بلا حماية كافية ولا حقوق مضمونة، في وقتٍ يتزايد فيه الخطر على حياتهم وصحتهم، فيما تستمر الدولة في تجاهل صرخاتهم، وكأن أرواحهم لا تستحق حتى نظرة إنصاف.