مشروع التاكسي النهري ببغداد.. وعود حكومية اصطدمت بالواقع وتحوّلت إلى استثمار ترفيهي

منفذ حكومي بقبضة المطاعم
انفوبلس/..
في محاولة جديدة لحل أزمة النقل المزمنة في العاصمة بغداد، أعلنت وزارة النقل نهاية عام 2024 عن إطلاق مشروع "التاكسي النهري"، ضمن خطة شاملة لتطوير وسائل النقل وتحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين.
المشروع الذي أثار تفاؤل الشارع العراقي، جاء بعد وعود طويلة لم تُترجم على أرض الواقع، ويتضمن إنشاء محطات نهرية في 22 موقعاً على ضفاف دجلة، وتشغيل زوارق لنقل الركاب بالتنسيق مع الجهات المعنية.
غير أن ما بدأ كمبادرة واعدة لتقليل الازدحام المروري، سرعان ما تحوّل إلى مشروع ترفيهي وتجاري، تهيمن عليه المطاعم والمصالح الخاصة، وسط غياب واضح للتطبيق الفعلي لخدمة النقل النهري.
وبينما تستمر الوزارة في الحديث عن "جدوى اقتصادية" و"دراسة المسارات"، يظل المواطن ينتظر خدمة لم يرَ منها سوى اليافطات والبدايات المتعثرة، ما يفتح الباب أمام تساؤلات جادة حول مصير المشروع وجدّيته في معالجة أزمات النقل المتفاقمة في العاصمة.
مبادرة على الورق
في هذا السياق، كانت وزارة النقل قد أعلنت، في 26 كانون الأول 2024، عن انطلاق مشروع التاكسي النهري رسمياً في العاصمة، باعتباره خطوة إصلاحية في قطاع النقل المتهالك.
وأوضح المتحدث باسم الوزارة، ميثم الصافي، أن المشروع يندرج ضمن سلسلة مبادرات تهدف إلى الارتقاء بالخدمات المقدمة عبر شركات النقل الحكومية، لافتاً إلى أن الشركة العامة لإدارة النقل الخاص ستكون الجهة المشغّلة الرئيسية له.
كما كشف الصافي عن خطط موازية تتضمن إنشاء ورش خاصة بسيارات الأجرة، تقدم خدمات الصيانة والغسل والتشحيم لأصحاب "التكاسي المميزين"، في إطار حزمة تحفيزية للانضمام إلى المشروع.
وبيّن أن الخدمة ستكون متاحة عبر تطبيق إلكتروني حديث، إلى جانب مركز اتصال (كول سنتر) لتسهيل الطلبات، خاصة للمواطنين ذوي الدخل المحدود، الذين سيُتاح لهم تحديد التسعيرة وفق قدراتهم المالية. تأتي هذه الخطوة في ظل تضخم غير مسبوق في عدد المركبات، الذي تجاوز 8 ملايين سيارة، ما فاقم اختناقات بغداد المرورية بشكل غير مسبوق.
خطة لـ 22 محطة ببغداد
الوعود كانت تشير إلى أن مطلع العام الجديد سيشهد انطلاقة فعلية للمشروع، بهدف التخفيف من وطأة الزحام المروري في العاصمة. إلا أن هذه الوعود لم تترجم إلى واقع ملموس
رغم إعلان وزارة النقل في تشرين الأول 2024 عن إكمال خطتها لتفعيل التاكسي النهري عبر 22 محطة موزعة على ضفاف نهر دجلة، لم تشهد بغداد أي تحرك فعلي على الأرض مع حلول أيار 2025.
فقد أكدت الوزارة حينها، عبر مدير مكتبها الإعلامي ميثم الصافي، أنها أعدّت دراسة متكاملة لكل موقع من المواقع المختارة، تشمل نوع الزوارق، أعدادها، أعماق النهر اللازمة لتشغيلها، وآلية التشغيل المقترحة، بالتنسيق مع وزارة الموارد المائية لتحديد المسارات النهرية الصالحة للملاحة.
الوعود كانت تشير إلى أن مطلع العام الجديد سيشهد انطلاقة فعلية للمشروع، بهدف التخفيف من وطأة الزحام المروري في العاصمة. إلا أن هذه الوعود لم تترجم إلى واقع ملموس، ليضاف هذا المشروع إلى سلسلة مبادرات حكومية أُعلن عنها سابقاً وتوقفت بعد أيام من انطلاقها، غالباً لأسباب تتعلق بإجراءات أمنية تمنع الزوارق من عبور بعض المناطق، أو لغياب التنسيق الفعلي بين الجهات المعنية.
ورغم التصريحات المتكررة والتخطيط الظاهري، يبقى التاكسي النهري مشروعاً مؤجلاً يعكس حالة التردد والارتباك في معالجة أزمات النقل في العاصمة.
تحول الى نشاط ترفيهي
لكن وعلى خلاف ما وعدت به وزارة النقل، لم يُفعّل مشروع التاكسي النهري في بغداد كوسيلة نقل عامة تخفف الازدحام، بل تحوّل في بعض مواقعه إلى نشاط ترفيهي بحت يخدم مصالح استثمارية خاصة.
ففي منطقة كورنيش الكاظمية، على سبيل المثال، يستقبل الزائر مشهدا مختلفا كلياً عمّا روّج له المشروع الحكومي، مطعم فاخر بحدائق واسعة وسلالم تؤدي إلى ضفة النهر، حيث يفترض أن يكون مرسى الزوارق المخصصة للنقل النهري.
وبدلاً من الوصول إلى نقطة انطلاق الزوارق، يجد الزائر نفسه داخل صالة طعام مزدحمة، في استحواذ واضح على الموقع الذي خُطط له أن يكون نقطة خدمة عامة.
ووفق مصادر مطلعة، فإن المرسى لا يزال يحمل يافطته الرسمية، لكن الزوارق التابعة له باتت تُستخدم حصرياً للرحلات الترفيهية العائلية، مقابل 25 ألف دينار للجولة، دون أي خدمة نقل بين الضفتين أو تسعيرة فردية.
والأكثر إثارة للجدل هو التزامن اللافت بين افتتاح المشروع الرسمي في حزيران 2023 بحضور وزير النقل، وافتتاح المطعم قبل ذلك بثلاثة أشهر، في وقت كانت فيه أعمال تأهيل المحطة ما تزال جارية، ما يطرح تساؤلات حقيقية حول آليات تنفيذ المشروع وشفافيته.
غياب التخطيط السليم
في موازاة التعثر الميداني لمشروع التاكسي النهري، برزت تفسيرات نيابية لتسليط الضوء على أسباب الفشل المتكرر لهذا المشروع، حيث أكدت عضو لجنة الخدمات النيابية، مهدية اللامي، في تصريح صحفي، أن أحد أبرز أسباب التعطيل يعود إلى غياب التخطيط السليم، مشيرة إلى أن "الحكومات تطلق أحياناً مشاريع دون الرجوع إلى وزارة التخطيط، أو دون إجراء دراسات جدوى مالية واقتصادية كافية، ما يؤدي لاحقاً إلى تعثرها أو توقفها، كما حدث مع التاكسي النهري".
وبالعودة إلى عام 2015، كانت وزارة النقل قد دشنت أول تجربة للمشروع في بغداد، من خلال تسيير زوارق في نهر دجلة بين محطات محددة، لكن المشروع تعثر سريعاً، ليُعاد طرحه مجدداً في صيف 2023 ضمن حملة لتخفيف الازدحام المروري.
ورغم توسيع نطاق المشروع ليشمل مراسٍ في مناطق الجادرية، والكاظمية، والعطيفية، بالإضافة إلى محافظات أخرى كالبصرة وبابل والنجف، إلا أن النتائج ظلت دون التوقعات.
وفي تموز 2023، تعرض المشروع لانتكاسة كبيرة إثر اندلاع حريق في ستة زوارق قرب مدينة الطب، أدى إلى إصابة خمسة موظفين. وقد بلغت كلفة إنشاء مرسى الجادرية وشراء 30 زورقاً نحو 25 مليار دينار، دون تحقيق عوائد خدمية أو اقتصادية تُذكر، في ظل ضعف واضح في المتابعة والتشغيل.
تبرير الوزارة
في تعليقه على أسباب تعثر مشروع التاكسي النهري، أقرّ المتحدث باسم وزارة النقل، ميثم الصافي، بوجود تحديات ميدانية حالت دون استمراره، رغم ما وصفه بالإقبال الجماهيري الواسع عند انطلاقه في بغداد عام 2023.
وأوضح الصافي، في تصريح صحفي، أن المشروع تعرض لانتكاسات أبرزها احتراق عدد من الزوارق، فضلاً عن انخفاض مناسيب نهر دجلة، ما اضطر الوزارة إلى تشغيله بشكل جزئي في بعض المقاطع فقط، دون التوسع المخطط له.
وبيّن أن الوزارة شكّلت لجنة فنية بالتعاون مع وزارة الموارد المائية لدراسة التحديات الفنية، وجرى الاتفاق على إنشاء 22 محطة جديدة ضمن خطة لإعادة إحياء المشروع، بما يعزز فرص استمراره مستقبلاً في العاصمة.
وفيما يتعلق بتحوّل محطة الكاظمية من مشروع نقل عام إلى نشاط ترفيهي، اكتفى الصافي بالقول إن "الوزارة تتابع هذا الملف عبر لجان مختصة، وهي الجهة المخولة باتخاذ التوصيات المتعلقة باستمرار الخدمة أو تعديل مساراتها"، مشدداً على أن ما يواجه المشروع "ليس فشلاً بقدر ما هو تحدٍّ طبيعي تفرضه ظروف المدينة والبنية التحتية القائمة".