الاقتصاد العراقي تحت المجهر الأميركي.. اتفاقيات متزايدة وتغلغل عميق في القطاع الخاص

الهيمنة الأميركية الناعمة
انفوبلس..
تأتي الزيارات المتكررة للشركات الأمريكية إلى العراق تحت غطاء الاستثمارات المشتركة مع رجال الأعمال المحليين لتشكيل إطار هيمنة واشنطن على مفاصل الاقتصاد العراقي، حيث تسعى هذه الزيارات إلى إرساء سياسات مالية ونقدية تُعزز من دور الدولار الأمريكي وتوجه مسار الإصلاحات الاقتصادية وفقاً لمعايير تخدم المصالح الأمريكية.
وقد انعكس ذلك بوضوح عبر اتفاقيات الطاقة والغاز، وتثبيت سعر الصرف للعراقي دينار مقابل الدولار، إضافةً إلى تسهيل تحويل رؤوس الأموال والأرباح للشركات الأمريكية إلى الخارج، ما عمّق اندماج العراق في النظام المالي الأمريكي وخفّض من هامش السيادة الاقتصادية لبغداد.
وتنتهج واشنطن سياسة “الإغراء والتوجيه” عبر تقديم تسهيلات ائتمانية وفنية مقابل تبني إصلاحات هيكلية تخدم رؤوس الأموال الأمريكية في العراق، فيما تلعب مجموعات الضغط الأمريكية، دورًا فاعلًا في الكونغرس لضمان عقود مهمة لشركات نفطية وطاقة أمريكية في العراق.
وتوظف الإدارة الأمريكية تمويلات صندوق النقد الدولي لفرض سياسات تقشفية وفتح أسواق الطاقة أمام الخصخصة الأجنبية.
القطاع الخاص تحت الوصاية الأميركية
وفي امتداد واضح لسياسة واشنطن في تعزيز نفوذها الاقتصادي داخل العراق، جاءت تصريحات الاتحاد العام للغرف التجارية العراقية لتُضفي طابعًا رسميًا على دخول الشركات الأمريكية الواسع إلى السوق العراقية، معتبرةً هذا التوغل دلالة على "بيئة آمنة للاستثمار"، في حين أن واقع المشهد يشير إلى أبعاد أعمق تتعلق بإعادة تشكيل القطاع الخاص العراقي وفق قواعد اللعبة الأمريكية.
رئيس الاتحاد، عبد الرزاق الزهيري، وصف زيارة الشركات الأمريكية بأنها "خطوة إيجابية ومهمة"، في حين أكد أن "العراق بيئة خصبة للاستثمار"، وهي لغة تنسجم مع السردية التي تروج لها واشنطن لشرعنة وجودها الاقتصادي المكثف في البلاد.
لكن جوهر هذه الزيارة يتجاوز الشراكة التجارية، حيث تمخضت عن توقيع عدد من الاتفاقيات في مجالات الطاقة والطاقة المتجددة، إضافة إلى توقيع مذكرة تنظيم إطار عمل مشترك بين غرفة التجارة الأمريكية ونظيرتها العراقية، ما يُعد خطوة نحو تقنين التدخل الأمريكي في إدارة القطاع الخاص المحلي.
الأخطر من ذلك، أن الشركات الأمريكية الكبرى، مثل "كوكل"، باتت تعلن نيتها دخول السوق العراقي، مستندة إلى رسائل دعائية تصف العراق بـ"الآمن"، في محاولة لتلميع صورة الواقع الأمني والاقتصادي المعقد، وتقديمه على أنه مؤهل لاحتضان الاستثمارات الأمريكية دون قيود.
هذا الخطاب لا ينفصل عن التوجه الأمريكي الأوسع لإعادة هيكلة الاقتصاد العراقي، ليس فقط عبر السيطرة على الموارد، بل من خلال توجيه القطاع الخاص المحلي ليكون تابعًا وظيفيًا للاقتصاد الأمريكي، تحت لافتات براقة من قبيل "الفرص" و"الشراكات الدولية".
أكبر بعثة تجارية أمريكية
تسعى واشنطن إلى توسيع نفوذها الاقتصادي في العراق عبر قنوات الشراكة التجارية والاستثمار المؤسسي، والتي غالبًا ما تصاحبها ضغوط غير مباشرة لإعادة تشكيل البنية الاقتصادية العراقية بما يتماشى مع المصالح الأمريكية
وفي سياق متصل، أعلنت السفارة الأمريكية في بغداد بتاريخ 7 نيسان الجاري عن وصول بعثة تجارية كبرى تضم نحو 60 شركة أمريكية إلى العاصمة، في خطوة وُصفت بأنها الأكبر من نوعها في تاريخ العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
وأفادت السفارة في بيان رسمي أن هذه الزيارة التي تستمر لثلاثة أيام (7 – 9 نيسان) تمثل أول مهمة تجارية معتمدة من وزارة التجارة الأمريكية إلى العراق، وتقودها غرفة التجارة الأمريكية برئاسة ستيف لوتس، وتضم 101 ممثل عن شركات عاملة في قطاعات حيوية مثل الطاقة والتكنولوجيا والرعاية الصحية.
وتتضمن الزيارة توقيع مذكرة تفاهم بين غرفة التجارة الأمريكية واتحاد غرف التجارة العراقية، بهدف ما وصفته السفارة بـ"تعزيز العلاقات بين القطاعين الخاص الأمريكي والعراقي".
وتأتي هذه الخطوة في وقت تسعى فيه واشنطن إلى توسيع نفوذها الاقتصادي في العراق عبر قنوات الشراكة التجارية والاستثمار المؤسسي، والتي غالبًا ما تصاحبها ضغوط غير مباشرة لإعادة تشكيل البنية الاقتصادية العراقية بما يتماشى مع المصالح الأمريكية.
وقد صرّح القائم بالأعمال الأمريكي في بغداد، دانيال روبنستين، خلال حفل استقبال رسمي للبعثة التجارية، بأن الهدف المحوري من الزيارة هو "تعزيز الشراكات التجارية"، مؤكدًا أن غرفة التجارة الأمريكية باتت تمثل منصة مؤثرة في صياغة السياسات الاقتصادية التي تؤثر على قرارات الحكومات والقطاع الخاص في كلا البلدين.
وأشار إلى أن زيارات الغرفة للعراق واستضافة الوفود العراقية في الولايات المتحدة خلال العقد الأخير لم تكن مجرد تواصل اقتصادي، بل جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تعميق النفوذ الأمريكي داخل البنية الاقتصادية العراقية تحت مظلة التعاون التجاري.
مدى استقلالية القرار المالي
وفي مشهد يعكس التصاعد المستمر للنفوذ المالي الأميركي في العراق، شهدت العاصمة بغداد في حزيران 2023 سلسلة من اللقاءات رفيعة المستوى بين البنك المركزي العراقي ومصرف "جي بي مورغان" الأميركي، أحد أكبر المصارف العالمية وأكثرها تأثيرًا في النظام المالي الدولي. هذه اللقاءات لم تكن مجرد تبادل رؤى مالية، بل جسّدت تعميقًا للعلاقة المالية بين الطرفين، ورسمت ملامح اندماج جديد للاقتصاد العراقي في الفلك الأميركي.
محافظ البنك المركزي العراقي، علي العلّاق، التقى بنائب رئيس "جي بي مورغان"، دانيال زيليكو، حيث ناقشا آليات دعم المصارف العراقية في تمويل التجارة الخارجية بالدولار، وهو ما يعزز من اعتماد العراق على العملة الأميركية ويُبقي بوابة التحويلات مرهونة بالمراقبة الخارجية.
اللافت أن العلّاق دعا خلال اللقاء إلى فتح مكتب تمثيلي رسمي للمصرف الأميركي داخل العراق، في خطوة وُصفت بأنها تمهيد لترسيخ حضور مؤسسي دائم للمصرف داخل البنية المالية العراقية، بدعم مباشر من الحكومة والبنك المركزي.
وفي السياق نفسه، التقى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بالوفد الأميركي، مُعلنًا ترحيبه الكامل بفتح فروع مصرف "جي بي مورغان" داخل البلاد، ومشدّدًا على أهمية توسيع التعاون في مجالات الاستثمار والدعم الفني، وهو ما يعكس انسجامًا حكوميًا مع الرؤية الأميركية لإعادة هيكلة النظام المالي العراقي وفق المعايير الدولية التي تقودها واشنطن.
الحوالات عبر "جي بي مورغان"
وسبق هذه اللقاءات تسريبات إعلامية في تشرين الثاني 2023 كشفت عن اجتماعات سرية جرت في أبو ظبي بين وفد من البنك المركزي العراقي ومسؤولين أميركيين، تناولت آليات التحويلات الخارجية لتمويل الاستيرادات. وأفضت الاجتماعات إلى اتفاقات تسمح بفتح حسابات دولارية لخمسة مصارف عراقية عبر بنوك أردنية، وتنفيذ الحوالات عبر "جي بي مورغان"، إضافة إلى تنسيق أرصدة بالدرهم الإماراتي، والروبية الهندية، واليوان الصيني، في محاولة للالتفاف على بعض القيود، دون الخروج من عباءة الإشراف الأميركي على كامل العملية المالية.
هذه الخطوات مجتمعة تعكس انتقال العراق من مرحلة الشراكة الاقتصادية إلى مرحلة التبعية المالية، حيث باتت مفاتيح التحويلات والتمويل والإشراف الرقابي في قبضة المؤسسات الأميركية، في مشهد يطرح أسئلة كبيرة حول مدى استقلالية القرار المالي العراقي في ظل هذا التشابك المتنامي.