من باع القضية.. اتفاقية خور عبد الله تفجر أزمة السيادة وتعيد شبح التنازلات!

انفوبلس/..
في فصل جديد من النزاع السياسي والقضائي حول واحدة من أكثر القضايا حساسية في ملف السيادة العراقية، تعود اتفاقية تنظيم الملاحة في “خور عبد الله” إلى الواجهة، ليس فقط باعتبارها اتفاقًا ثنائيًا بين العراق والكويت، بل كوثيقة تحمل في طياتها كثيرًا من الأسئلة، وعلامات الاستفهام، والتشكيك في المسارات الدستورية والقانونية التي مرّت بها.
فبعد أن قضت المحكمة الاتحادية العليا بعدم دستورية قانون التصديق على الاتفاقية في 4 أيلول/سبتمبر 2023، حاولت رئاستا الحكومة والجمهورية الطعن في الحكم، وهو ما اعتبره مراقبون محاولة التفاف على قرار قضائي نهائي، وانقلاباً ناعماً على الإرادة الشعبية التي طالما اعتبرت ملف الخور أحد رموز الانتهاك المتواصل للسيادة العراقية منذ عام 1991 وحتى اليوم.
ومع تأجيل البت في الدعوى إلى نهاية الشهر الجاري، يتصاعد الجدل حول خلفيات هذه الخطوة، واحتمالات إدخال القضية في نفق من التأجيلات المقصودة، التي قد تفرّغ الحكم القضائي من محتواه، وتمنح الاتفاقية حياة سياسية جديدة، ولو من بوابة التفسيرات الفضفاضة لمواد الدستور.
*أزمة متراكمة
خور عبد الله لم يكن مجرد ممر ملاحي، بل بوابة حساسة تقع في عمق المياه السيادية العراقية، وهو الشريان البحري الرئيسي المؤدي إلى ميناء أم قصر، ما يجعل أي تفاوض أو اتفاق حوله مسألة ترتبط بالسيادة الوطنية بشكل مباشر، وليس من باب المجاملات الدبلوماسية أو ترتيبات “حسن الجوار” كما يقول البعض.
بحسب ما كشفه الخبير القانوني محمد أزهر، فإن الاتفاقية بصيغتها الحالية تمثل تنازلاً واضحاً عن جزء من السيادة البحرية العراقية، إذ قيّدت حرية بغداد في اتخاذ قرارات تخص التوسعة أو التطوير داخل الخور، وجعلت أي نشاط فيه مشروطاً بموافقة الطرفين، ما يشكل قيدًا غير مسبوق على حق الدولة العراقية في إدارة حدودها وممراتها الحيوية.
الاتفاقية التي وُقّعت عام 2012 وصُدق عليها في 2013، لم تمر عبر مسار دستوري سليم، بحسب ما أكده متخصصون في الشأن الدستوري، فهي جرت في أجواء سياسية مشحونة، ومرّت دون نقاش واسع داخل البرلمان، وهو ما يعكس خللاً هيكليًا في آليات صنع القرار المصيري داخل الدولة العراقية.
*بين الرئاسة والقضاء.. تناقض الصلاحيات
موقف رئيسَي الجمهورية والوزراء في الطعن على حكم المحكمة، بدا للكثيرين وكأنه محاولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإحياء اتفاقية لفظها القضاء الأعلى باعتبارها غير دستورية ومخالفة للواقع الجغرافي والتاريخي.
واستندت رئاستا الجمهورية والحكومة في دعواهما إلى المادة الثامنة من الدستور التي تُلزم العراق باحترام مبادئ حسن الجوار وحل النزاعات سلمياً، غير أن خبراء دستوريين اعتبروا أن المادة ذاتها لا تسمح بتقديم التزامات دولية تنتقص من السيادة أو تمر دون رقابة السلطة التشريعية.
المفارقة أن المحكمة الاتحادية العليا، وهي الجهة التي أبطلت الاتفاقية سابقاً، باتت الآن مطالبة بالبت في دعاوى للطعن بقرارها، وهو ما يطرح تساؤلات عميقة عن مفهوم “القرار البات والملزم” في النظام القضائي العراقي، وإن كانت المحكمة ستلتزم بثوابتها، أم أن الضغوط السياسية ستغير المعادلة.
*زيارة مشبوهة.. وقلق شعبي
في خضم هذه التطورات، جاءت زيارة رئيس مجلس القضاء الأعلى، القاضي فائق زيدان، إلى الكويت، لتزيد الطين بلة. الزيارة التي رُوّج لها كزيارة رسمية للتباحث القضائي، قوبلت بشكوك واسعة داخل الأوساط القانونية والسياسية العراقية، خاصة وأنها جاءت متزامنة مع الطعون المقدمة ضد قرار المحكمة.
هناك من يذهب إلى أبعد من ذلك، ويتحدث عن احتمالات ممارسة ضغط سياسي على المحكمة لتعديل موقفها، خاصة أن الزيارة لم تأتِ بعد حسم القضية، بل في لحظة مفصلية ترتبط مباشرة بمصير الاتفاقية.
*البرلمان.. الغائب الحاضر
وسط كل هذا الضجيج السياسي والقضائي، يغيب البرلمان، الجهة التشريعية الوحيدة المخولة دستوريًا بالمصادقة أو رفض الاتفاقيات الدولية. رئيس اللجنة القانونية النيابية محمد عنوز، لم يتردد في توجيه انتقاد شديد اللهجة للرئاسات الثلاث، واصفًا تحركاتها بأنها مخالفة صريحة للدستور، وتجاوز على دور البرلمان.
العنوز حذّر من أن استمرار تغييب البرلمان عن مثل هذه القضايا الحساسة، لا يعني فقط التهميش السياسي، بل التورط في قرارات غير مدروسة قد تقود إلى “كوارث سيادية”، خاصة في ظل ما تشهده المنطقة من توترات إقليمية وداخلية.
وأشار إلى أن اتفاقية خور عبد الله ترتبط بشكل مباشر بالسيادة الوطنية، وأن تجاهل المجلس في هذا الملف يُعد “إسقاطًا فعليًا لمبدأ الفصل بين السلطات”، ومؤشرًا خطيرًا على ميل متزايد لدى السلطات التنفيذية للتفرّد بالقرار دون حسيب أو رقيب.
*القانون فوق الجميع؟
القاضي السابق وائل عبد اللطيف ذهب في موقفه أبعد من الجميع، وأكد أن قرار المحكمة الاتحادية الذي أبطل المصادقة على الاتفاقية “قرار نهائي لا يجوز الطعن فيه”، مستندًا إلى مواد دستورية واضحة تضع المحكمة في رأس الهرم القضائي، وتمنحها سلطة تفسير الدستور والفصل في النزاعات.
عبد اللطيف شدد على أن محاولات إعادة تمرير الاتفاقية تمثل خرقًا جديدًا للدستور، وتصب في خانة “التنازلات التاريخية” التي يرفضها الشعب العراقي، ويجب التصدي لها بكل السبل القانونية والدستورية.
*السيادة لا تُجزأ
من يتابع سطور هذه الأزمة يدرك أن ملف خور عبد الله لم يكن مجرد اتفاق فني أو قانوني، بل عنوان لمعركة أعمق تتعلق بمن يملك القرار السيادي داخل العراق، وهل ما زالت المؤسسات الدستورية فاعلة في منع التنازل عن الحقوق الوطنية، أم أن لغة التفاهمات والضغوط الخارجية باتت تتحكم بمصير البلاد؟
ربما ستكون الأسابيع المقبلة حاسمة، فإما أن تكرّس المحكمة الاتحادية مبدأ السيادة الوطنية وتثبت استقلالها، أو تنزلق إلى مستنقع التسييس وتفقد ما تبقى من ثقة الشارع العراقي بها. ومهما كانت النتيجة، فإن رسالة الشعب واضحة: “السيادة لا تُجزّأ، وخور عبد الله ليس للبيع".